مدينة دايجون هي وجهتك لمشاهدة الابتكارات الكورية الجديدة وتذوق أفضل أنواع الخبز في البلاد، واستكشاف قرية عمال السكك الحديدية القديمة التي تحولت منازلها إلى فضاء ثقافي مشهور. وبعد أن تخلصت من شكلها الممل في الماضي، أصبحت المدينة مليئة بالمواقع التي تستحق الاستكشاف والاستمتاع بها.
© مؤسسة السياحة الكورية
من النادر على مدار القرن الماضي أن نجد مدينة كورية شهدت ما شهدته مدينة دايجون من التغيير. والذي أعاد تعريف دايجون هو مجموعة من البنية التحتية الجديدة، والمساعدات الدولية، والتركيز الوطني على مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات(STEM)، بالإضافة إلى نقل المكاتب الحكومية من سيول. ويعود التحول الذي شهدته دايجون بشكل كبير إلى موقعها المثالي وجغرافيتها، حيث تقع في سهل وسط كوريا الجنوبية. وكان اسمها القديم هانبات أي "حقل واسع"، وقد كانت حتى أوائل القرن العشرين قرية قليلة السكان. ثم حول بناء السكك الحديدية خلال الفترة الاستعمارية دايجون إلى مركز نقل سهل الوصول إليه يربطها بجميع أنحاء البلاد من خلال الطرق وخطوط السكك الحديدية والممرات المائية.
كان عمال السكك الحديدية يعيشون في حي يُسمى سوجي-دونغ بالقرب من محطة دايجون. وفي أعقاب الحرب الكورية بنيت مناطق سكنية جديدة، فتعرض حي سوجي-دونغ للإهمال وأصبح أكثر من ٢٠٠٠ منزل مهجورا. بدأ التغيير في عام ٢٠١٠ عندما قام فنان بتحويل منزل قديم لأحد عمال السكك الحديدية إلى فضاء ثقافي.
اليوم، يعتبر حي سوجي-دونغ تجسيدا لشغف الكوريين بكل ما هو "نيوترو" (كلمة مركبة من "جديد" و"ريترو" أي "من الطراز القديم"). قد يبدو الحي للوهلة الأولى قديمًا ومتهالكًا، لكن سحره الحقيقي يتجلى عندما تغامر بالدخول إلى أزقته الضيقة، ولا يستغرق الأمر وقتا طويلا لتقدير كيف اكتسبت المنازل حياة جديدة. من مقهى بمدخل تصطف على جانبيه أشجار الخيزران إلى مطعم بحديقة جميلة تذكرنا بالينابيع الحارة، يمزج الحي بين المفاهيم الأصلية والتصميم الحديث ليخلق جوا مميزا.
تم تحويل المساكن السابقة لعمال السكك الحديدية في سوجي-دونغ إلى مقاهٍ ومؤسسات صغيرة أخرى. وأعيد تصميم كل منزل بأسلوبه المميز مع الاحتفاظ بالأسقف الخارجية والأسقف الداخلية والأعمدة الأصلية.
وعلى نحو مماثل، فإن "تيمي أوراي" قرية تضم مساكن لمسؤولين حكوميين بُنيت في وسط مدينة دايجون القديمة في ثلاثينيات القرن الماضي. وقد تم إعادة تصميم تسعة من هذه المساكن، بما في ذلك منزل الحاكم السابق لمحافظة تشونغتشونغ الجنوبية، وتحويلها إلى فضاء ثقافي يستضيف معارض حول تاريخ دايجون الحديث وفنونها وثقافتها.
في السابق، كانت تعتبر مدينة دايجون مملة إلى حد ما بسبب قلة معالم الجذب السياحي وأجوائها المزدحمة بالعمل، ولكنها تحولت الآن إلى مدينة نابضة بالحياة تستضيف مهرجانات مسرحية ومسابقات غنائية في ظل افتتاح مقاه ومطاعم ومعارض فنية جديدة.
مركزا للعلوم والابتكار
على الرغم من أن دايجون كانت مركزا مهما للنقل منذ فترة طويلة، إلا أنها على مدار الخمسين عاما الماضية أصبحت تشتهر بشكل أفضل بكونها مهدا للابتكارات التكنولوجية المتقدمة في كوريا. ومع توسع حدود المدينة، ضمت إلى قصبتها بلدة دايدوك في عام ١٩٨٣. وكان قرار للحكومة المركزية بتجميع مؤسسات البحث والتطوير الوطنية قد أدى في تلك الفترة إلى إنشاء مجمع دايدوك للأبحاث في عام ١٩٧٣، وهو يُعرف الآن باسم إنوبوليس دايدوك. ويُعَدُّ المجمع الأكبر من نوعه في كوريا.
وبحلول نهاية ديسمبر ٢٠٢٢، أصبحت دايدوك تضم ٢٣٩٧ معهدا بحثيا وشركة. وبالإضافة إلى ذلك، تحتضن دايجون أكثر من عشرين جامعة وكلية، بما في ذلك المعهد الكوري المتقدم للعلوم والتكنولوجيا(KAIST) المرموق والمقرات البحثية للشركات الكبرى الرائدة. ولعبت هذه المدينة بصفتها المركز الابتكاري وحاضنة التكنولوجيا المتقدمة دورا محوريا في تعزيز القدرة التنافسية العلمية لكوريا. ولذلك يبدأ أي حديث عن تطبيقات التكنولوجيا المتقدمة المستقبلية بما يحدث في دايجون.
تضمّ حديقة إكسبو للعلوم القاعة التذكارية لدايجون إكسبو، ونافورة الموسيقى في ساحة مولبيت، وبرج هانبيت الشهير. ويحب السكان المحليون والزوار الاسترخاء تحت ظلال الأشجار أو الاستمتاع بالمناظر الليلية الجميلة.
© سين جونغ-سيك
في عام ١٩٩٣، استضافت دايجون معرض إكسبو الدولي، وهو حدث يضاهي في حجمه دورة الألعاب الأوليمبية في سيول عام ١٩٨٨، بمشاركة ١٠٨ دولة و٣٣ منظمة دولية وأكثر من ٢٠٠ شركة كورية. وقد جعل هذا الحدث اسم دايجون مرادفا للعلوم. والآن، تعد حديقة إكسبو للعلوم في موقع معرض إكسبو الدولي معلما ومكانا ترفيهيا للسكان والزوار. كما يعد برج هانبيت إكسبو مكانا مفضلا لمشاهدة المناظر الليلية الجميلة. وقد استضافت دايجون أيضا أولمبياد الرياضيات الدولي في عام ٢٠٠٠ من أجل تعزيز مكانتها الأكاديمية.
يقع المتحف الوطني للعلوم في قلب إنوبوليس دايدوك ، ويوفر تجارب عملية تجعل العلوم أكثر ملاءمة. إذ هو مكان يتلاقى فيه الماضي والحاضر والمستقبل حيث يجذب الزوار بمعروضاته التي تشمل نموذجا بالحجم الكامل لنارو-١ أول مركبة إطلاق فضائية في كوريا، ونسخة روبوتية من كومدوري وهي تميمة معرض إكسبو الدولي لعام ١٩٩٣.
يعد التعلم أمرا ممتعا في المتحف الوطني للعلوم والذي يحتوي على معارض تفاعلية تشمل العلوم والتكنولوجيا والتاريخ الطبيعي والتطور البشري وعلم الفلك وتكنولوجيا المستقبل.
دقيق القمح يغير الطبخ
كانت المعكرونة الكورية تُصنع تقليديا من دقيق الحنطة السوداء ونشا الأروروت. بيد أنّ هذا الأمر تغير عندما دخل دقيق القمح كوريا في منتصف الخمسينيات. دمرت الحرب الكورية البلاد مما أدى إلى نقص حاد في الأرز الذي يُعتبر الغذاء الرئيس في كوريا. وشجعت الحكومة الناس على خلط الأرز بمكونات أخرى مثل القمح والذرة التي تبرعت بها الولايات المتحدة. وأصبح وضع معكرونة القمح في الأطباق الشعبية المكونة من المرق مثل "سولونغتانغ" (حساء عظام البقر) أو "دويجي غوكباب" (حساء لحم الخنزير مع الأرز) أمرا شائعا وما يزال رمزا لتلك الفترة.
لقد أصبح دقيق القمح جزءا من تقاليد الطهي في دايجون عندما تحولت المدينة إلى مركزا مؤقتا لتخزين وتوزيع السلع الأمريكية بما فيها الحبوب التي كانت تُطحن هناك بعد وصولها إلى موانئ بوسان أو إنتشون. أصبح دقيق القمح وفيرا لدرجة أنه أصبح مستخدما كعملة. في الستينيات والسبعينيات، كان العمال الذين عملوا في مشروع استصلاح الأراضي غرب دايجون يتقاضون أجورهم على هيئة دقيق القمح الذي يمكن تحويله إلى نقود في مركز الصرافة.
أدت وفرة دقيق القمح إلى تطوير أطباق جديدة. ومن أشهر الأطعمة الكورية المثالية التي نشأت في دايجون طبق كالغوكسو وهو حساء مصنوع من مرق المأكولات البحرية أو اللحوم مع معكرونة القمح والخضروات. وتتعدد أنواع هذا الطبق بحسب المرق والزينات، وسماكة المعكرونة.
يعد طبق كالغوكسو من الأطباق الشعبية التي تتوفر في المطاعم في جميع أنحاء البلاد. ولا توجد سجلات تثبت من اخترع الطبق أو في أي مكان بالضبط من دايجون، ولكنه بدأ يظهر في الستينيات في وسائل الإعلام باسم "دايجون كالغوكسو". بحلول نهاية عام ٢٠٢٣، كان هناك ٧٢٧ مطعما متخصصا في كالغوكسو في دايجون، أي بمعدل ٥ مطاعم لكل ١٠٠٠٠ شخص، وهو أكبر عدد في منطقة واحدة. كما تستضيف دايجون مهرجان كالغوكسو في أكتوبر من كل عام منذ عام ٢٠١٧.
معكرونة بمرق مصنوع من عظام البقر والأنشوفة. وباعتبارها موطن طبق كالغوكسو، يوجد في دايجون العديد من المطاعم المتخصصة في تقديم نسخ متنوعة من هذا الطبق الشهير.
© سين جونغ-سيك
مخبز رائد
ا تقتصر شهرة مدينة دايجون على كالغوكسو فقط. إذ يُعتبر مخبز سونغسيمدانغ الذي يتخذ من المدينة مقرا له أكبر مخبز غير تابع لسلسلة في كوريا. ففي عام ٢٠٢٣، حقق المخبز مبيعات بقيمة ١٢٤.٣ مليار وون كوري وصافي ربح قدره ٣١.٥ مليار وون كوري أي حوالي ٢٤,٩٣ مليون دولار على التوالي.
افتتح مخبز سونغسيمدانغ أبوابه في عام ١٩٥٦، وهو العام الذي بدأت فيه شحنات القمح الأمريكية في الوصول. فر المؤسس ليم غيل-سون وزوجته هان سون-دوك من الشمال إلى الجنوب أثناء الحرب الكورية واستقرا في دايجون. بعد حصولهما على كيسين من دقيق القمح من خوري كاثوليكي، بدأ الزوجان ببيع الخبز المُعدّ على البخار.
لم ينس المخبز ذكريات المعاناة بعد الحرب أبدا. فهو في كل يوم، يقوم بالتبرع بما تبقى من خبز إلى دور الأيتام والمراكز الخيرية، وهي ممارسة بدأت منذ اليوم الأول لافتتاحه. وإذا لم يتبق خبز كاف يخبز المزيد طازجا.
يلتزم مخبز سونغسيمدانغ بتطوير المنتجات بشغف حيث يقدم معجنات فريدة من نوعها مثل "سوبرو آنبان المقلي". وهو نوع من الخبز المغطى بالستروسل يجمع بين حلاوة خبز الفاصوليا الحمراء ونكهة خبز الستروسل الجوزية والقوام المقرمشة للدونات. أصبح هذا الخبز من أبرز منتجات مخبز سونغسيمدانغ حيث تم بيع أكثر من ٨٠ مليون قطعة حتى الآن. ولا غرو أن تكون الوصفة مسجلة ببراءة اختراع.
إذا صادفت طابورا من الناس أثناء تجولك في وسط مدينة دايجون، وكان طابورا طويلا يمتد لعشرات أو حتى مئات الأمتار، فمن المرجح أنك وصلت إلى متجر سونغسيمدانغ فنظرا لأن المخبز لا يمتلك فروعا خارج دايجون، تكون زيارة المدينة هي الطريقة الوحيدة لتذوق منتجاته.
يشهد وجود العدد الكبير من مطاعم كالغوكسو والطوابير الطويلة أمام متاجر سونغسيمدانغ على كيفية تحول دقيق القمح الذي ساهم في إشباع جوع الكوريين في الماضي إلى عنصر حوّل دايجون من مدينة بلا طعم إلى مدينة مفعمة باللذة. يقام مهرجان دايجون للخبز السنوي، الذي يستمر لمدة يومين في أواخر سبتمبر، ويعرض اعتزاز المدينة بما تقدمه من أطباقها الشهية.
يكون مخبز سونغسيمدانغ الشهير في دايجون مزدحما دائما حيث توجد طوابير طويلة من الناس بانتظار الدخول لشراء منتجاته المميزة، مثل كعكة "سيرو" المشهورة بتغطيتها الوفيرة من الفواكه الموسمية.
المعالم الثقافية والطبيعية
إن وصف دايجون على أنها مجرد طعام رائع ومركز نقل لن يفي المدينة حقها، فهي غنية أيضًا بالثقافة والطبيعة. وتعدّ حديقة هانبَات النباتية في قلب المدينة واحدة من أبرز معالم دايجون السياحية إذ هي أكبر حديقة نباتية حضرية في البلاد. وبجوارها يقع متحف دايجون للفنون ومتحف لي أونغنو. يتميز فن لي أونغنو (١٩٠٤–١٩٨٩) بلوحاته التجريدية التي تدمج عناصر الخط، مثل سلسلتي "الأحرف التجريدية" و"الناس". وفي الخمسينيات من عمره، إبّانَ ذروة شهرته ونجاحه، انتقل إلى باريس لاستكشاف إمكانيات فنية جديدة
حتى بعد تورطه في حادثة سياسية في أواخر الستينيات ومعاناته من تبِعات ذلك، واصل لي إبداعه. خلال فترة سجنه لمدة عامين ونصف في مؤسسة دايجون الإصلاحية، أنتج أكثر من ٣٠٠ عمل فني باستخدام أي مادة تتاح له بما في ذلك حبوب الأرز.
ولم تحبط تلك الفترة عزيمة لي، بل استمر في السعي وراء فن يتجاوز الحدود. ولقد لاقت سلسلة "الناس" التي كرس نفسه لها في أواخر السبعينيات صدى واسعا بين الناس في جميع أنحاء العالم. وتصور اللوحات حشودا من الناس وكأنهم يرقصون. وقد جد الكوريون فيها الطاقة التي ألهمت مسيرة الديمقراطية في بلادهم.
يقدم متحف لي يونغ-نو في دايجون رؤى عميقة حول العالم الإبداعي للفنان، وهو مزيج من الشرق والغرب، التقليدي والمعاصر.
© أرتشفرايم نيت
إن الطبقات العديدة التي تراكمت في دايجون على مدى القرن الماضي من خلال التغيير المستمر والجهود المتواصلة تسمح لها الآن بتلبية مجموعة واسعة من الاهتمامات، سواء كانت في مجالات العلوم أو الثقافة أو التاريخ الحديث والمعاصر أو الفن أو الطبيعة. للاستمتاع الكامل بما تقدمه المدينة، فمن الأفضل قضاء أكثر من يوم أو يومين واختيار موضوع لكل يوم.
تحتضن غابة جانغتايسان الطبيعية منطقة كثيفة من أشجار الميتاسيكويا، وهي نادرة في كوريا حيث يمكن للزوار الاستمتاع بالاستحمام في الغابة وسط مناظر طبيعية رائعة.
© منظمة السياحة الكورية